في خضم الانتفاضة وبينما كان الرصاص يحصد بشكل متزايد شباب القصرين وسيدي بوزيد و تحديدا أسبوعا قبل هروب بن علي تناقلت أهم المواقع الفرنسية تقريرا عن ندوة حول العلاقات بين ضفتي المتوسط نظمتها وزارة الاقتصاد الفرنسية يوم 7 جانفي. اللقاء الذي حضرت فيه وزيرة الخارجية الفرنسية تعرض بشكل محتشم للوضع المتفجر في تونس واكتفت الأخيرة بالاشارة الى أن ذلك ناتج عن « مشكل بطالة » لاغير. الآن نعرف طبعا أكثر من ذلك الوقت العلاقات المشبوهة لـ"ميشيل أليو ماري" بالعائلة الحاكمة في تونس و بالتالي دواعي تهميشها الطابع السياسي للانتفاضة حينها في تونس و دفاعها حتى اللحظة الأخيرة عن بن علي و المبادرة الى اعلان الرغبة في تقديم مساعدة امنية لنظامه في الاسبوع الأخير للانتفاضة.
غير أن من بين الحضور في ذات الندوة ضيفا آخر من الصعب أن يغيب على ما يبدو عن لقاءات فرنسية يمكن أن تتعرض الى الوضع في تونس. وهو التونسي-الفرنسي طارق بن عمار، سليل عائلة بن عمار المعروفة والذي من العادة أن يتم التذكير في الصحف الدولية بأنه قريب وسيلة بن عمار زوجة الرئيس الراحل بورقيبة.
أبدى طارق بن عمار رايه فيما يحصل في تونس في هذه الندوة يوم 7 جانفي كما يلي: « تصوروا شخصا أو شخصين مثل أحمدي نجاد في الجزائر، وتونس، أو المغرب… و حينها بين 5 و 10 ملاين شخصا سيغادرون شواطئ شمال افريقيا الى كورسيكا و سردينيا و صقلية و الساحل الأزوري ».
كان تحذيرا واضحا من أن المآل المتوقع للانتفاضة المتصاعدة آنذاك ضد بن علي هي شخصية دينية متطرفة تسبب أزمة لاجئين تهدد أمن دول الضفة الشمالية للمتوسط بما في ذلك فرنسا. كان تخويفا واضحا من أن البديل عن بن علي هو ببساطة كارثة.
و لهذا فعندما ظهر بن عمار مباشرة اثر رحيل بن علي في عدد من المنابر الاعلامية الفرنسية يشيد بالثورة كان ذلك مشهدا شديد الوطأة.
و الأدهى أن في أحد هذه الحوارات التي انقلب فيها بشكل كامل عن مواقفه الداعمة حتى آخر لحظة لبن علي وصف تونس بأنها « ليست إيران » (حوار مع قناة « تي أف 1″ يوم 18 جانفي) في الوقت الذي كان يتوقع فيه قبل اسبوع من رحيل بن علي بسيناريو ايراني في تونس في سياق تخويف باريس من سقوط بن علي.
طارق بن عمار وويكيليكس
نشرت منذ حوالي الأسبوع نشرية « لسبريسو-ريبوبليكا » الايطالية دفعة جديدة من وثائق « ويكيليكس » من البرقيات الديبلوماسية الامريكية التي يتم تسريبها منذ أشهر. و من بين الوثائق الجديدة المتعلقة ببرقيات السفارة الامريكية في روما برقية تتحدث عن زيارة سرية قام بها سيلفيو برلسكوني الى بن علي في شهر أوت سنة 2009 و « أنها كانت خاصة الى درجة أنه لم يعلم بها أي من وزيري خارجية البلدين ». الزيارة كانت لنقاش « مصالح اقتصادية » تجمع الشخصين (و ليس البلدين) و لكن تمت الاشارة في هذا الاطار الى أن برلسكوني كان مرافقا في هذه الزيارة بشخص واحد: نعم كان ذلك الشخص هو طارق بن عمار. البرقية تشير اثر ذلك الى ملكية برلسكوني في تونس لستوديوهات سينمائية و شركة توزيع و ما يعرف عن تقاسمه مع بن عمار 50 في المئة من أسهم قناة « نسمة ».
الحقيقة أن هذا التعلق القوي ببن علي ليس مجرد مصادفة، أو اجتهاد بريء معزول عن أي خلفيات اخرى مصلحية. إذ ربما يبدو طارق بن عمار لغزا و من النوع الثقيل إلا أنه يبدو قد بدأ في التكشف أكثر من اي وقت مضى في الأشهر و خاصة الأسابيع الأخيرة.
و من المعروف هنا أن بن عمار أصبح منذ 21 ماي 2008 يملك حوالي 25 في المئة من اسهم هذه القناة عبر شركة « كوينتا كومنيكايشين » في حين يملك بيرلسكوني الربع الباقي عبر شركته « ميديا سات ». البرقية أعلاه تركز أيضا على قوة علاقات برلسكوني ببن علي و القذافي معا. و تشير بشكل خاص الى بدئ العلاقة الحميمية بين برلوسكوني و القذافي منذ سنة 2002. لكن التطور الآخر الذي حصل في الأيام الأخيرة هو أن السلطات الايطالية قد كشفت عن ودائع و أموال و املاك القذافي في ايطاليا و يتم الاشارة في هذا السياق أن القذافي يملك 10 في المئة من اسهم شركة « كوينتا كومينيكايشين » بشكل مقنع عبر « مبعوثه طارق بن عمار » على حد قول المصادر الايطالية.
هذه المعطيات لم تكن مجهولة تماما. قبل أكثر من عامين (سبتمبر 2009) كتب الصحفي البريطاني جون هوبر في « الغارديان » مقالا راج بشكل واسع حول طبيعة المصالح المتشابكة بين برلسكوني و القذافي و اشار بشكل خاص الى خبر صغير ورد في وكالة « راديوكور » الايطالية حول شراء شركة ليبية اسمها « لافيترايد » 10 في المئة من الشركة المسجلة باسم بن عمار أي « كوينتا كومينيكاشيون ». و « لافيترايد » شركة استثمارية دولية مملوكة من قبل عائلة القذافي. هوبر يقول أيضا أن الأخيرة يشارك في ملكيتها أيضا برلسكوني بنسبة 22 في المئة.
بن عمار قال في المقابل (لصحيفة ريبوبليكا) أن هناك شركتين باسم « كوينتا » واحدة مسجلة في ايطاليا و الاخرى في فرنسا، غير أن ذلك لا يبدو أنه أقنع أحدا.
خاصة أن التقارير التي نشرت في الصحف الايطالية اليومين الاخيرين تؤكد على ربط « كوينتا » التي يملك فيها القذافي اسهما بطارق بن عمار. سبب هذا الجدال طبعا أن ذلك يمكن أن يعني أن القذافي يملك اسهما في قناة « نسمة » و هو ما يعكس العلاقة القوية بين بن عمار و القذافي، بل العلاقة تبدو بين مشغل و مشتغل اذا اتبعنا توصيف الصحف الايطالية. و هذه المعطيات تبدو متناسقة مع المعطيات التي تم تداولها حول أن الحوار الذي تم بثه يوم 25 جانفي في « نسمة » مع القذافي، لترطيب التصريحات المعادية للثورة التونسية، جاء اثر لقاء بين بن عمار و الأخير.
اسم قناة « نسمة » يتكرر بشكل ملفت مع سيرة بن عمار خاصة عندما يتعلق الامر بعلاقاته المتشابكة ببرلسكوني و القذافي. غير أن هناك اسما آخر يحيلنا على الموضوع الأساس هنا اي تشابك علاقة هذا الثلاثي (بن عمار/برلسكوني/القذافي) و « نسمة » ببن علي. هذا الاسم هو فتحي الهويدي الذي كان كاتب الدولة للاعلام في أحلك فترات بن علي في التعتيم الاعلامي في تونس خلال التسعينات. ما دخل فتحي الهويدي في كل هذا؟ بعد تهميشه لسنوات من قبل غريمه عبد الوهاب عبد الله في اطار الصراعات داخل داخل السلطة تم تعيين الهويدي رئيسا لمجلس ادارة « نسمة » في ذات اليوم الذي اشترى فيه كل من بن عمار و برلسكوني نسبة 50 في المئة من اسهم قناة « نسمة » اي يوم 21 ماي 2008.
ربما تبدو تلك قصة قديمة لا تهمنا الآن. لكن ما أصبح واضحا حاليا أن الهويدي لايزال يلعب حتى هذه اللحظة دورا محوريا في رسم الخط التحريري للقناة، و يبدو أن الهويدي لايزال منجذبا الى خلفيته التجمعية في التوصيات التي يقدمها لصحفيي القناة. على الأقل ذلك ما عبر عنه أحدهم بعد مغادرته احتجاجا على ذلك. نترك هنا تكلمة القصة للصحفي نصر الدين بن حديد الذي أدلى بتصريحات في هذا الشأن لموقع « الهدهد » (بتاريخ 18 فيفري 2011):
طارق بن عمار رجل أعمال « ناجح ». لكنه ايضا موجود على مفترق الطرقات في التشابك الخطير و غير المريح بتاتا بين البيزنيس و السياسة و أوساط نعرف الآن مدى تعفنها مثل القذافي و بن علي. ما هو غير مريح ايضا هو تطويع أداة سامية مثل السينما في هذا التشابك الخطير. إذ ليس من المصادفة أن بن عمار كان سيكون منتجا للشريط الذي كان من المزمع تصويره مستوحى من « رواية » للقذافي، و يمكن لنا خاصة في هذه الأجواء حيث يقصف الأخير شعبه بجميع أنواع الاسلحة، أن نتصور كيف سيكون « عملا دراميا » من هذا النوع مجرد فيلم بروباغندا يقدم القذافي كروائي و مفكر ذي شأن.
المؤلم أن نفس هذا المنتج يريد أن ينتج شريطا حول محمد البوعزيزي الإسم الذي ارتبط بالثورة التونسية في نفس الوقت الذي كان فيه بن عمار و حتى الاسبوع الأخير يساهم في حملة الترهيب المعادية للثورة، و بالتالي المبررة عمليا لحملة القمع الدموية التي كانت تجري على قدم و ساق.
هل يمكن أن يكون شخص بهذه العلاقات المتشابكة و المتماسة بأوساط الاستبداد و الفساد و الحائز على أدوات اعلامية و دعائية ضخمة أن يكون له أثر ايجابي على المشهد الاعلامي التونسي؟
• . للحصول على أخر الأخبار العاجلة في تونس إضغط ه
من فضلك اظغط على جام وتمتع بأخر الاخبار من صفحاتنا
___
___